بسم الله الرحمن الرحيم
رقم الفتوى: 51
تاريخ الفتوى: الجمعة 17 ربيع الثاني 1444هـ – 11 تشرين الثاني / نوفمبر 2022م
السؤال: كثرت في الآونة الأخيرة حوادث الغرق والهلاك والقتل على طرق الهجرة (التهريب) إلى أوربا وغيرها، فما حكم هذه الهجرة؟ وهل يجوز لأحد أن يرسل عائلته أو بعض أفرادها من خلال هذه الطرق؟
الجواب: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدنا محمَّدٍ رسول الله وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ. أما بعدُ:
لا شك أن المتسبب بلجوء هؤلاء للهجرة وسلوك تلك الطرق ثم غرقهم أو قتلهم آثم مشارك بالجريمة؛ فمحافظة الإنسان على نفسه ونفس مَن ولّاه الله شؤونه واجبٌ، ولا يجوز التفريط في النفوس المعصومة أو تعريضها للتلف والهلاك، ويدخل في التفريطِ السفرُ عبر الطرق غير الآمنة، وبيان ذلك فيما يلي:
أولاً: خلق الله الإنسان وكَرَّمه وائتمنه على جسده، وأوجب عليه أن يحافظ عليه ويرعاه، ونهاه عن إيقاع ما يضر به ويؤذيه، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [سورة النساء، الآية: 29]، وقال سبحانه: ﴿{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة، الآية: ١٩٥].
وقد اعتنى الشرع بأحكام السفر؛ لا سيّما ما يتعلق بسلامة المسافر، وأخذ التدابير والاحتياطات اللازمة؛ ففي «مسند الإمام أحمد» رحمه الله تعالى عن أبي عمران الجوني قال: حدثني بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَن بات فوق بيت ليست له إجّارٌ فوقع فمات، فقد برئت منه الذمّة، ومَن ركب البحرَ عند ارتجاجه فمات، فقد برئت منه الذمة»، والإجّار: هو ما يَمنع السقوط عن السطح كالجدار أو السياج ونحوه، ومعنى: «برئت منه الذمة» أي: (ليس له عهد عند الله بحفظه؛ لأنه مفرط).
فكلُّ سفر لم يكن آمناً، ويتعرض فيه المسافر لخطر الموت أو الضياع أو الغرق فهو سفرٌ ممنوع شرعاً، ويأثم قاصدُه وطالبه، قال ابن عبد البر في «التمهيد» : (لا خلاف بين أهل العلم أنّ البحر إذا ارتجّ؛ لم يجز ركوبه لأحد بوجهٍ مِن الوجوه في حين ارتجاجه).
ولا يخفى أنّ السفر في الطرق غير الآمنة يتضمن مفاسد ومحاذير شرعيةً أخرى؛ من أهمها:
1- تعريضُ النفس للإهانة والأذى والإذلال أثناء السفر على يد تجار البشر وخَفْرِ السواحل وجنود الحدود وغيرهم، وقد ثبت في «سنن الترمذي» عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمؤمن أنْ يُذلَّ نفسَه». قالوا: وكيف يُذِلُّ نفسَه؟ قال: «يتعرّض مِن البلاء لما لا يطيق».
2- إضاعةُ الأموال بدفع المبالغ الكبيرة لقاء التهريب، أو احتيال المهربين بأخذ الأموال مِن الناس وتركهم مشردين أو تائهين، أو تسليمهم لحرس الحدود.
ثانياً: مَن ولاه الله ولايةً مِن زوجة أو ولد أو قريب ونحو ذلك؛ فهو مسؤول عنهم، ويجب عليه رعايتهم والحفاظ عليهم؛ ففي «الصحيحين» عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته».
وتعريضُهم للمخاطر والهَلَكة محرمٌ شرعاً، وهو مِن التفريط في الأمانة الموكلة إليه، ففي «سنن أبي داود» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: «كَفَى بالمرءِ إثماً أن يضيّعَ مَنْ يَقُوتُ».
ولا شك أن السفر عبر الطرق غير الآمنة والتعريض للموت والهلكة هو مِن أعظم التضييع، ويشمل هذا النهي كلَّ ما يخل بأمن المسافرين، ويعرضهم للخطر؛ كتحميل المراكب فوق طاقتها بالناس أو البضائع، أو التعرض لقطاع الطرق، أو تعدي حرس السواحل، وغير ذلك مما يؤدي إلى الغرق أو الضياع أو الهلاك، ومثله الطرق البرية التي فيها خطر التعرض للهلاك جوعا أو عطشاً، أو هجوم السباع، ونحو ذلك…
ثالثاً: مَن سلك هذه الطرق غير الآمنة في السفر فهو آثم، وإذا أفضى ذلك إلى موته أو موت مَن هم تحت ولايته؛ فالإثم أعظم، وهو مِن التسبب في القتل.
ومن ادعى أنه مضطر لهذه الهجرة؛ فإنه لا يسلم له في معظم الأحوال، ولعل بقاءه حيث هو يكون أرجـى للسلامة من ركوب المخاطر؛ فالقاعدة الشرعية تقول: (لا يجوز دفع الضرر بضرر مثله أو أكبر منه)، كما أن المفاسد المترتبة على هذه الهجرة إلى بلاد الغرب أشد من مفاسد بقائه في بلاد المسلمين، فلا ينبغي التساهل بها، بل ينبغي التنبه لمخاطرها، والبحث عن بديل آمن، وللوقوف على المزيد مما يتعلق بذلك؛ يمكن الرجوع إلى (بيان بشأن هجرة السوريين ولجوئهم في بلاد الغرب)([1]).
ختاماً: نسأل الله أن يرحم مَن مات مِن أبناء المسلمين أثناء الهجرة، ونرجو له المغفرة، حتى لو كان مفرِّطاً، ونهيب بالناس القيام بحقوق هؤلاء الذين وافتهم المنية في طريق السفر بقدر الوسع والطاقة؛ من الصلاة عليهم، ودفنهم، وما إلى ذلك… كما نسأل الله تعالى أن يلطف بالمستضعفين، وأن يخفف عنهم، ويفرج همهم، وأن يجعل لهم فرَجاً ومخرجاً، وأن ينتقم ممن ظلمهم فألجأهم إلى ذلك، والحمد لله رب العالمين.
وقد وقع على الفتوى من أعضاء المجلس السادة العلماء | ||
1- الشيخ أحمد حمادين الأحمد 2- الشيخ أحمد حوى 3- الشيخ أحمد زاهر سالم 4- الشيخ تاج الدين تاجـي 5- الشيخ عبد العليم عبد الله 6- الشيخ عبد العزيز الخطيب 7- الشيخ عبد المجيد البيانوني 8- الشيخ عماد الدين خيتـي 9- الشيخ فايز الصلاح 10 الشيخ عمار العيسى | 11- الشيخ علي نايف شحود 12- الشيخ محمد جميل مصطفى 13- الشيخ محمد الزحيلي 14- الشيخ محمد زكريا المسعود 15- الشيخ محمد فايز عوض 16- الشيخ محمد معاذ الخن 17- الشيخ معاذ ريحان 18- الشيخ ياسر الجابر 19- الشيخ موسى الإبراهيم |
[1]– انظر بيان المجلس الإسلامي السوري بعنوان: (بيان بشأن هجرة السوريين ولجوئهم في بلاد الغرب) عبر الرابط: https://sy-sic.com/?p=2133 .